فصل: قال في ملاك التأويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}
وتصريف الرياح إهاجة للهواء في الكون، والإهاجة للهواء في الكون تأتي منها فوائد كثيرة للغاية، ونحن حين نجلس في مكان مكتظ وممتلئ بالأنفاس نقول لمن يجلس بجوار النافذة: لنهوي الغرفة قليلًا. وإن لم يكف هواء النافذة تأت بمروحة لتأخذ من طبقات الجو طبقة هواء جديدة فيها أوكسجين كثير. إذن فإرسال الرياح ضرورة حتى لا يظل الهواء راكدًا. ويتلوث الجو بهذا الركود، ولو أن كل إنسان سيستقر في مكان مكتوم الهواء لامتلأ المكان بثاني أكسيد الكربون الخارج من تنفسه، ثم لا يلبث أن يختنق، ولذلك أراد الله حركة الرياح رحمة عامة مستمرة في كل شيء، وهي أيضًا رحمة تتعلق بالقوت كما تعلقت بمقومات الحياة من نفس وماء وطعام، وتصريف الرياح من أجل تجديد الهواء الذي تتنفسة، وكذلك تكوين الماء. لأن سبحانه القائل عن الرياح. {حتى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ...} [الأعراف: 57]
والرياح هي التي تساعد في تكوين الأمطار التي تنزل على الأرض فتروي التربة التي نحرثها، هكذا تكون الرياح بشرى في ثلاثة أشياء: الشيء الأول تحريك طبقات الهواء وإلا لفسد الجو في الماء، لأن الرياح هي التي تحمل السحاب وتحركه وتنزل به هناك فرقًا بين بشرى، وبشرًا؛ فالبشرى مفرد، وقد وردت في قوله الحق: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بالبشرى...} [هود: 69]
أي التبشير. لكن بشرًا جمع بشير وهي كلمة مخففة، والأصل فيها بشر.
والحق يقول: {فَلَمَّا أَن جَاءَ البشير}.
وجمع البشير بُشُر مثل: نذير ونُذُر بضم الشين فسكنت تخفيفا، فتنطق بُشْرًا وبُشُرًا. {بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}.
هي بين يدي رحمته لأنها ستأتي لنا بالماء، وهو الرحمة في ذاته، وبواسطته يعطينا ري الأرض، ونحن نرتوي منه مباشرة أيضًا. ونلحظ كلمة الرياح إذا أطلقت بالجمع فهي تأتي للخير، أما حين يكون فيها شر فيأتي بكلمة ريح مفردة، مثل قوله: {... بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]
فإذن عندما ترى كلمة رياح فاعلم أنها خير، أما كلمة ريح فاعلم أنها شر لماذا؟ أنت إذا كنت قاعدًا في حجرة فيها فتحة نافذة يأتي منها الهواء، ويتسلط التيار على إنسان، فالإِنسان يصاب بالتعب؛ لأن الهواء يأتي من مكان واحد، لكن حين تجلس في الخلاء ويهب الهواء فأنت لا تتعبَ، لأن الرياح متعددة. ولكن الرياح تأتي كالصاروخ.
الرياح إذن يرسلها الحق بين يدي رحمته؛ حتى إذا أقلت أي حملت يقال: أقل فلان الحمل أي رفعه من على الأرض وحمله لأنه أقل من طاقته، لأنه لو كان أكثر من طاقته لما استطاع أن يرفعه عن الأرض، وما دام قد أقله فالحمل أقل بالنسبة لطاقته وبالنسبة لجهده، أقلت أي حملت، وما دامت قد حملت فجهدها فوق ما حملته، وإذا كان الجهد أقل من الذي حملته لابد أن ينزل إلى الأرض.
وأقلت سحابًا أي حملت سحابًا. نعرف أن السحاب هو الأبخرة الطالعة والصاعدة من الأرض ثم تتجمع وتصعد إلى طبقات الجو العليا، وتضربها الرياح إلى أن تصادف منطقة باردة فيحدث تكثيف للسحاب؛ فينزل المطر؛ ونرى ذلك في الماء المقطر الذي يصنعونه في الصيدلية؛ فيأتي الصيدلي بموقد وفوقه إناء فيه ماء ويغلي الماء فيخرج البخار ليسير في الأنابيب التي تمر في تيار بارد فيتكثف البخار ليصير ماء. {حتى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ}.
وقال الحق: {سقناه} بضمير المذكر؛ لأنه نظر إلى السحاب في اسم جنسه، أو نظر إلى لفظه، وجاء بالوصف مجموعًا فقال: {ثقالا} نظرًا إلى أن السحاب جمع سحابة فرق بينه وبين واحدة بالتاء، وما دامت السحب كلها داخلة في السّوق فليس لها تعددات فكأنها شيء واحد. {حتى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} [الأعراف: 57]
السحاب لا يتجه إلى مكان واحد، بل يتجه لأماكن متعددة، إذن فالحق يوجه السحاب الثقال لأكثر من مكان. لكن الحق سبحانه وتعالى يقول: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ}.
والميت هو الذي لا حراك فيه وانتهى اختياره في الحركة، كذلك الأرض، فالماء ينزل من السماء على الأرض وهي هامدة ليس بها حركة حياة أي أن الله يرسل السحاب ويزجيه إلى البلد الميت في أي مكان من الأرض. {... فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]
إذن فالأرض التي لا يأتيها الماء تظل هامدة أي ليس بها حركة حياة مثل الميت. {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الماء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات...} [الأعراف: 57]
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا وينبهنا إلى القضية اليويمية التي نراها دائما في صور شتى، وهي أن الأرض تكون في بعض الأحيان جدبًا، ثم يهبط عليها بعض المطر، وبمجرد أن ينزل المطر على الجبل، وبعد يومين من نزول المطر نجد الجبل في اليوم الثالث وهو مخضر، فمن الذي بذر البذرة للنبات هذا اليوم؟ إذن فالنبات كان ينتظر هذه المياه، وبمجرد أن تنزل المياه يخرج النبات دون أن يبذر أحد بذورًا، وهذا دليل على أن كل منطقة في الأرض فيها مقومات الحياة. {... فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]
فالماء الذي ينزل على الأرض الميتة يحيي الأرض؛ لأنه سبحانه يخرج الحياة كل يوم، وحين يوضح لنا سبحانه أن سيبعثنا من جديد فليس في هذا أمر عجيب، وهكذا جعل الله القضية الكونية مرئية وواضحة لكل واحد ولا يستطيع أحد أن يكابر ويعاند فيها؛ لأنها أمر حسيّ مشاهد، ومنها نستنبط صدق القضية وصدق الرب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}، وفى سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)} وقال في سورة الروم: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)}، وقال في سورة الملائكة [فاطر]: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)}.
وقع في هذه الآى اختلاف مع تشابهها في اللفظ وتقارب مقاصدها فأول ذلك اختلاف مطالعها بورود يرسل وأرسل، الثانى وصف الرياح وإتباعها بقوله في الأعراف والفرقان: {نشرا بين يدى رحمته} ولم يرد ذلك في سواهما الثالث ما يكون عن إرسال الرياح ففى آية الأعراف: {حتى إذا أقلت سحابا}، وفى سورة الروم وسورة الملائكة: {فتثير سحابا} ولم يذكر ذلك في الفرقان وفى سورة الأعراف بعد ذكر إقلال الرياح السحاب: {سقناه لبلد ميت}، وفى سورة الاملائكة: {فسقناه إلى بلد} وفى سورة الروم بعد إثارة الريح السجاب: {فيبسطه في السماء}، {ويجعله كسفا}، وفى الأعراف: {فأنزلنا به الماء}، وفى الفرقان: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} وفى الروم: {فترى الودق يخرج من خلاله} ولم يرد في الملائكة ذكر لإنزال الماء ولا كيفيته وفى الأعراف: {فأخرجنا به من كل الثمرات}، وفى الفرقان: {لنحيى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسى كثيرا} وفى الروم: {فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون} وفى سورة الملائكة {كذلك النشور} ولم يقع في الأخيرتين إحالة التشبيه، وفى الأعراف {لعلكم تذكرون} ولم يقع في سورة الأعراف مثل هذا الترجى فهذه جملة سؤالات.
والجواب عن السؤال الأول: أن آية الأعراف لما تقدمها قوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} فذكر سبحانه ما تقرر وتحصل من خلق السماوات والأرض مما لا تكرر فيه وهما أعظم آياته وأعقب سبحانه بقوله: {ثم استوى على العرش} محمولا على ما تقرر بثم المقتضية التنبيه على جليل الحال فيما يعطف بها والتحريك للاعتبار بذلك وموقعه ورتبته حيث لا يراد مهلة الترتيب الزمانى لأن موضوع ثم في اللسان قصد الترتيب الزمانى مع المهملة حيث يراد ذلك وقصد الترتيب الاعتنائى والتنبيه على حال ما عطف بها حيث لا يقصد زمان ولا يلحظ كقوله تعالى: {إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر} فهذا وارد مورد الدعاء على من يخاطب به البشر كما يرد التعجب والترجى وربنا المنزه عن ذلك كله ولكن خوطب البشر على ما يتعارفون ويجرى بينهم فلما قال سبحانه: {ثم استوى على العرش} فذكر ما هو تعالى عليه منزها عن الآنية والتمكن المكانى والمناسبة والحلول جل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، فلما ذكر تعالى من هذه الأفعال العظيمة ما ذكر مما لا يتكرر أعقب سبحانه بما يتكرر ويتوالى من إنعامه على الخليقة مما به قوام أحوالهم ومصالح عيشهم، فقال سبحانه: {يغشى الليل النهار} وأورد ما يتوالى بطول نواله العالم بمشيئته ويتجدد عليهم مما به قوام حالهم إلى انقضاء الأمد المحدود ومجئ اليوم الموعود واتبع هذا التعريف بما يجارى الجمل الاعتراضية حال الكلام مما يلائم ويناسب ذلك تعريفه بقوله: {ألا له الخلق والأمر}، فأعلم باعتراضه لخلق ذلك كله وتصرف أمره في الجميع بما شاء وأخبر بتعاليه وعظمته فقال: {تبارك الله رب العالمين}، وأمر عباده بالدعاء والتضرع إليه وحذرهم وذكرهم باستصحاب الخوف وتلك حال الموقنين إذ لا يؤمن مكره ولا ييأس من روحه، ثم رجاهم بقرب رحمته ممن أحسن ثم عاد الكلام إلى التذكير بجليل المتوالى من إنعامه وعظيم ألطافه فقال: {وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدى رحمته} فانتظم آخر الكلام بأوله وارتبط عوده ببدئه وتناسب أوضح تناسب بما يفهمه الفعل المضارع من التكرر من حيث لا يمنع ذلك ولو ورد هنا بلفظ الماضى لما ناسب لما يقتضيه الانقطاع إلا لحامل والله أعلم.